أدوات المستخدم

أدوات الموقع


ar:jeddah:2003-2008

عن حكمة أهل السماء (٢٠٠٣ - ٢٠٠٨)

أمس في مدينة تعز اليمنية المنقسمة أوحي إلى زياد انني مسلم. وهذا الحدث يطرح سؤالين :

  1. من هم أهل السماء الذين يسمع زياد صوتهم؟
  2. لماذا فقط الآن في ٢٠٢٢ وأنا دخلت الإسلام قبل ١٥ سنة في مدينة كانت تعيش في سلام ورخاء نسبية؟

سوف احاول تقديم بعض الاقتراحات الافتراضية للإجابة على السؤال الاول ثم توضيح تدريجيا الارتباط مع التاريخ الحديث لهذا البلاد.

ماهي حكمة هذه القصة؟
أرجو من القارء أن يعتبر روايتي كحالة نموذجية لما هي “إيكولوجيا الذهن”. حاول أن تلاحظ أن المجتمع ليس مادة جامدة بل هو ذهن فيتفاعل مع نشاط الباحث بطريقة استباقية. لكن منعني الإطار العلمي الكلاسيكي أن أفهم هذا الشيء لفترة طويلة فكنت أحمِّل زياد بأشياء لا أفهمها. هذه مسائل إبستمولوجيا أساسية تنكرها معظم البحوث الأجنبية ولا بد أن يأدي إلى كوارث.

لغز إقامتي الأولى (٢٠٠٣)

زياد في ٢٠٠٣ مع محمد القباطي زمياه في الجامعة

زياد الخدشي هو رجل يمني من مواليد تعز عام ١٩٧٩ الذي التقيت به في بداية إقامتي الأولى في تعز سنة ٢٠٠٣ قبل تسعة عشر عام. وسريعا ما أصبح بيننا تفاهم فكري غير عادي بالنظر إلى مستواي المحدود في اللغة العربية. كان زياد في ذلك الصيف خريج جامعة تعز - كلية المحاسبة بامتياز وله كذلك تأثير وائتمان في الحارة التي تربى فيها. أما أنا قد درست الرياضيات والفيزياء لمدة ٤ سنين قبل التوجه إلى العلوم الاجتماعية فوجدنا ارضية مشتركة. فهم زياد منهج البحث ومنطقه التجريبي فحاول مرافقة العملية مع أقارب دفعته وحارته لكن لم تجر العملية كما يتوقعه.

قبل وصف الانقلاب الذي حدث لازم وصف التوازن وتوزيع الأدوار التي كان بحثي يعتمد عليها. انا وزياد كنا نلتقي داخل حارته دائما لكن كان معي كثير من المحاورين الأخرين التقيت بهم عبر قسم اللغة الفرنسية والجامعة ومن ثم أصبح معي معارف في دكاكين الجولة جنب حارة زياد التي تسمى جولة حوض الأشرف. كانت العلاقة مع زياد تعتمد على نقاش فلسفي تجريدي لكن كنت حر وأستمع كما لهؤلاء المحاورين الذين يعطونني معلومات عن الواقع الاجتماعي تبدو موضوعية إلى حد كبير. وكان علي كباحث اجتماعي الاعتماد على النوعين وهي الملاحظات الواقعية والملاحظات التجريدية. فتدريجيا تكونت في رأسي تصورات عن المجتمع كنت أناقش صلاحيتها عند زياد. فزياد أصلا لا يتحدث عن الأشخاص لكن يتحدث في المستوى الفلسفي وعندما يريد الإيصال إلي فكرة معينة فيعتمد على أصحابه في الحارة الذين يمثلون عينة اجتماعية مثالية.

الانقسام الإجتماعي في بحثي الأول

هذا النظام يتشكل “خوارزمية إثنوغرافية” كما نستطيع نسميه ويعطي نتائج دقيقة لأنه يسمح تعدد الرؤية واندماجها التدريجي إلى معرفة موحدة للمجتمع. طبعا كان أحيانا يبدو وجود مجتمعين في نفس المكان وهي مجتمع الدكاكين ومجتمع الحارة. فأما مجتمع الدكاكين هو مجتمع منفتح يميل إلى التعلم وإلى عدن عاصمة الجنوب. وأما مجتمع الحارة هو مجتمع محافظ يهتم بقيم الشرف والقبيلة ويميل إلى صنعاء عاصمة الشمال. واكتب ملاحظاتي كل يوم في دفتري وطبعا كنت اذكر هذا التنوع و الانقسام وأبدأ أتخيل العوامل التاريخية والإقتصادية التي أدت إلى هذا الوضع. لكن مع ذلك لا أصدق ان هناك حرب أهلية حقيقية بين تجار الدكاكين وأصحاب الحارة وأن خط المواجهة يمر بوسط الجولة… فأنا أعرف أنني إنسان أجنبي يعيش في ظروف اصطناعية فعلاقاتي في هذه البيئة غير علاقاتي في بيئة أخرى وبرغم ان الناس يتكلمون معي بسهولة لا أنسى أن لدي تحيزات معرفية… و تقدمت هكذا في اكتشاف المجتمع وسريعا ما تكونت في رأسي صورة معينة للمجتمع المحلي ونظامه.

وهذا النظام للبحث كان يعطي دور أساسي لزياد وهذا الشيء معروف في منهجية البحث الميداني فكل باحث له حلفاءه في الميدان. على الباحث فقط ان يعترف بهذه علاقات و يحافظ عليها ويتصرف بإخلاص. لكن هذه المنهجية تركن كما على الباحث نفسه فعليه الاستسلام لأشخاص لا يعرف شيء عنهم ويعتمد فوق كل شيء على قلبه. وفي مرحلة معينة بدأ زياد أن يضيق وأنا بدأت أضيق كما وكنت أطلب منه مرارا وتكرارا أن يفسر لي ما الذي يدور لكن كان صامت. وهكذا وصلنا إلى يوم اتهمته أمام اصحاب الحارة فقلت “إنك لا تحترمني” وهذه الوقفة كانت لها عواقب متتالية أبعد من أي توقعات. فسريعا ما أصبح زياد شخصية منبوذة من الجميع والكل يتهم تصرفاته على أساس ان الزعيم هو طاغوت مستعبِد والشعب يريد اسقاط هذا النظام… وأصبح كل الناس يتفقون على رأي واحد ويمدحوني ويدللونني لكن لم أعد أفهم أي شيء عن نظام هذا المجتمع.

وفي الأخير اختار زياد ان ينسحب إلى قريته وأصر على أن أبقى معه هناك لكن فضلت المثابرة في بحثي فعلي كتابة رسالة ماجيستر بعد عودتي. وبعد إزالة الإنقسام الاجتماعي المفاجئة يبدو أن علي بناء بحثي كله من جديد. وإصراري في هذا الاتجاه في غياب زياد أدى إلى أحداث تراجيدي كوميدي فانطلقتُ إلى صنعاء بالأخير حيرة حتى أكثر.

(إن لم تقرأوها بعد فعليكم إطلاع عقدة هذه قصة)

الصدمة النفسية (٦/٢٠٠٤)

تم عرض وتحليل هذه القصة في رسالتي الأولى المكرسة لزياد عام ٢٠٠٤ تحت عنوان : “الزعيم وإخوان الحارة. وصف إثنوغرافي للفراغ”. في أطروحة الماجستير كنت أعبر عن اعجابي الشديد بزياد فقدمته كبطل أمام انقسامات وتناقضات مجتمعه التي يواجها بذكاءه وشرفه. لكن كانت علاقتي بزياد أكثر تعقيدًا وعاصفةً بكثير عندما كنت في تعز. نما إعجابي فقط خلال الكتابة وأنا أعيد قرأة وتحليل أحداث إقامتي على أساس ملاحظاتي الميدانية المجتمعة في دفاتري. قد تكون هذه الرسالة هي الأوضح من كل ماكتبته في العقد التالي برغم انني في ذلك الفترة المبكر لم اكن افهم اللهجة اليمنية وكان يفوتني تفاصيل كثيرة لكن النية والاتجاه العامة كانت يقينة.

وبعد هذه الرسالة مباشرة بدأت حياتي تتفكك بتأثير وحي لم تأتيني من اهل السماء بل من أعماق جسدي. فبعد ما حطت القلم واستعدت للعودة إلى تعز بقلقٍ ما فتلقيت عيد غطاس واعتنقتُ الهوية المثلية.
(لنكون أكثر دقة، كان الوحي أساسا عن أبي فاكتشفت أنه كان مثليا -حتى وإن لم يدرك ذلك…- واكتشفت أنني مثله. التفاصيل في النص: ما وراء العقدة ).
إكتشفت المصدر المحتمل لضعفي فقررت أن أعترف بهذا الشيء وأعود إلى تعز بدون خوف. طبعا كانت كلمة “المثلية” في نظري تمثل قمة الشرف والدهاء …

ولو من الصعب تصديق ذلك فهذه هي الظروف التي قربتني تدريجياً إلى الإسلام. أنا عدت إلى تعز للسنة الثانية من الماجستير ثم لدكتوراة في الأنثروبولوجيا حول “دور الشهوانية المثلية في مجتمع الذكور اليمني”. وكما ذكرته بالحين فإن تعز مجتمع متناقضة ولا أعتقد أن سيهديني مقاربة اجتماعية إلا بهذه الطريقة الخلفية.

مع عمال الجولة خلال بحثي الثاني في حوض الأشرف (٢٠٠٤).

المسيحية كفرضية تفسيرية

يبدو لي بعد فوات الاوان أن اعتناقي الهوية المثلية كان اكتشاف “تجريبي” للدين المسيحي ولو بغير وعي. واحتمال تأثر زياد بذلك حتى اعتنق العقيدة المسيحية في ما بعد.

أنا من عائلة فرنسية مسيحية الأصل وعلمنية العقيدة منذ جيلين على الأقل ولم أتلقى أي تربية دينية إلا من خلال زيارات سياحية في الكنائس والمتاحف. فكان هناك نسيج مسيحي وراء تحليل رسالتي الأولة الاجتماعية ولكن لم اكتشفه الا بعد دخولي الإسلام بسنوات كثيرة. كتبت رسالتي الأولى بدافع شعوري بالذنب بعد خيانتي لزياد في نهاية إقامتي ولو لم يتركني المجتمع خيار أخر. فصورتُ زياد على نموذج شخصية المسيح الذي صلبه يشهد على حقيقة رسالته. أنا لم أقرأ الإنجيل لكن نموذج المسيح فرض نفسه بغير وعي عبرالتحليل الاجتماعي. ومثل الحواريون بعد إنسحاب عيسى عليه السلام فكنت اعيد قراءة الأحداث مرارا وتكرارا وكان يبدو لي أنني فشلتُ في إخلاصي له بسبب قانونٍ سلوكٍ قديمٍ وضيقٍ. لهذا السبب في وقت العودة اعتنقت بقانونٍ جديدٍ يضمن رحمة الإله لأرواحنا الخاطئة ووعده بحياة جديدة على أنقاض العالم القديم.
بالطبع ، لم تكن هذه الصيغة اللاهوتية مقبولة عقليًا بالنسبة لي فكنت افتقد المفهوم الرئيسي وهو وجود الله. ومع ذلك كانت هذه الحقيقة أقوى في عيني، لأنني شعرت بها في النبض جسدي البيولوجي. هذا الذي كنت أسميه “المثلية”.

اعتراف الخوخة (٣/٢٠٠٦)

[تحليل الظروف التي أدت إلى اتخاذ “الشهوانية” كموضوع البحث.]

كشفت سرّي لزياد بعد بضع السنين في أول شهر إقامتي الثالثة خلال رحلة صغيرة إلى منطقة الخوخة السياحية. فأجابني زياد : “قد كذبت الطبيعة أحيانا…” فبهتُّ فكان هذا الجواب خارج تماما عن إطاري الفلسفي والمفاهيمي. بالنسبة لنا الطبيعة لا تكذب أبدا…

أنا وزياد في منتزه سندباد في الخوخة (محمية ابوزهر) في شهر ٣/٢٠٠٦.

مكانة زياد المستمرة في بحثي

في عملي في ذلك الوقت، كان زياد مجرد شخصية واحدة من بين العديد من الشخصيات التي حللتُ مواقفهم الإجتماعية في إطار بحثي الثاني من الماجستير. لكن في الحقيقة كان زياد يحل مكانة خاصة وأنا في فرنسا فهو الضمير الشامل الذي ما زلت أكرس له عملي. وكنت أحيانا اكلمه في المنام وحلمي يدور حول وجودٍ جسديٍ له لا يمكنني تحديد موقعه.

وتعترف منهجية الإثنوغرافية بالأوضاع من هذا النوع و - كما ذكرت أنفا - كل باحث له حلفاءه في الميدان وشروط لا بد من احترامها. وقد حاولت اتخاذ موقف أكثر موضوعي في بحث الماجستير الثاني لكن نبهتني مشرفتي الجديدة أنها غير مقتنعة بهذا الموقف العلمي المزعوم وتحليل إجتماعي مطل على الواقع. لذلك عندما عدتُ إلى تعز لإقامتي الثالثة كنت مصمم على العودة إلى زياد وعلى أن أسلِّم نفسي لنصيحته وإرشاده العلمي. بعد بحثي السابق على عمال وفقراء الجولة أردت كما تجنب التحيزات الإيديولوجية ضد النظام اليمني وتقدير وجهاء الحي الذين ينتمون كلهم لحزب المؤتمر.

تدهور وضع زيادالإجتماعي

لكن عند وصولي في عام ٢٠٠٦ لقيت رجل منعزل وضعيف اجتماعيا لا يخرج من غرفته. قد توقف زياد عن العمل برغم زيارات المسؤولين والمديرين الذين يبحثون عن مؤهلاته الأسطورية كمراقب مالي. أصبح زياد يبرر نفسه بمبادئه ورفضه التعاون مع الفساد لكن يبين أنه فقد ثقة النفس وروح القتال الذي كان يتميز به بين أصدقاء دفعته. قد انقلبت عائلته ضده وأما حارته تنظر إلى وقفته باعتبارها تكبرا فتحكم عليه بقسوة. أصبح الأسد زياد مثل قط محاصر في مخبأه عيونه تدور بقلق في كل اتجاهات وصوته خشن من الصياح.

أخذتُ غرفة في الفندق لبعض الأيام ثم اقترحت على زياد أن أنتقل معه في غرفته. وهذا القرار قد يكون أكبر خطاء ارتكبته ولكن في ذلك الوقت لم أفهم الوضع كما أفهمه الآن.

قد تحسن حالة زياد بسرعة لما انتقلت إلى عنده وبدأوا الجيران أن يمرون في الغرفة كما عملوا زمان. وبدأتُ التعرف على مسؤولي الحارة لم أتعرف عليهم من قبل وأقترب من أولاد القاضي وغيرهم من بيوت الناس. كانوا يبدأوا أن يثقوا بي والحواجز بيننا كانت تبدأ أن تتسقط.
وكانوا بعض الأشخاص مجهول الهاوية يأتون كل يوم من خارج الحارة ويجلسون عند زياد يقرأون صحيفتهم حتى وقت المغرب, لكنني كنت أحسبهم جيران فزياد لا يتكلم عن هذا فلم أتأثر بالضغوط. كنت أرى فقط أن زياد يعاني من مشكلة نفسية فيشعر بالإكتئاب ولا يخرج من غرفته ولا يتحرك.

لم أفهم الوضع كما أفهمه الآن، مرة أخرى. فكنت اتركز على زياد وكيف نعالج مشكلته النفسي. بالكاد تخيلت أن هذه المسألات كلها مرتبطة - و حالة الباحث الغربي هكذا أصلا فيحدِّق إلى الواقع ولا يدرك مكانه فيها.
واعترافي عن اقتناعي بالمثلية خلال رحلتنا إلى الخوخة لم يكون تحرش جنسي إطلاقا بل كان سواء إلقاء النظرة على هذه الإمكانية في إطار هذا النقاش. فأجابني زياد بأسلوب مؤدبة فقال : “ولو حصل يوم من الأيام أن أقتنع أنه الحق فممكن أعتمد هذه الممارسة… لكن لا أعتقد أنه الحق.”

قبل يوم من طلبه مغادرتي أنقض زياد الجدار أمام غرفته ليبني أصناما ويسخر من جاهلية مجتمعه. أنا بالكاد أن أفهم نيته وأنا أصوره.

كنتُ أشعر أن زياد يعاني من مشكلة جنسية ، وكان حدسي صحيحًا حتى ولو لم أفهم السبب. السبب الحقيقي أن في محيطه الإجتماعي كان الكثير ينتظرون ضمنيا أن يفرض هيمنته جنسياً مرة واحدة وإلى الأبد. كانوا يقرأون في قلبي دون ان يفقهون أفكاري أما زياد كان يتأثر من أفكاري وهو فقط لا يستطيع. ولكن أنا لا أستطيع تصور هذا الواقع إطلاقا.
وهذا هو حالنا في ما بعد الاستعمار. غالبًا ما يمثل اتقان العلوم الغربية وترويض مُلهماتها إمكانية للسفر إلى الغرب والاندماج في نظامه. وهكذا أصبح هذا الواقع من محرمات هذه الحقبة و نظام إبستيمولوجي يشمل هذه العلوم والعلوم الإجتماعية خاصة. أنا أصبحت أسير هذا النظام وبعض اليمنيون يتوقعون ان زياد يستفيد من الفرصة. لكن زياد لا يستطيع ولا يعرف يفسره… أو ممكن يرى بشاعة هذا النظام ويقفه مبادئه وأخلاقه العليا.

بعد أيام قليلة ، حلقت شاربي وأعدت إلى رفقة عمال الجولة.

أما أنا لم أقدر أشك في إخلاص اليمنيين وحسن نيتهم إلي لكن كان واضح أن زياد معه مشكلة جنسية. حسب تحليلي في ذلك الوقت زياد ينتمي إلى بيئة إجتماعي تتميز بهاجس الهيمنة ليس موجود في البيئات الإجتماعية الأخرى وتقريبا جره هذا الهاجس إلى الجنون… فكان لا بد ان أشعر بالخيانة في نهاية الشهر الأول لما سأل مني أن أخرج من غرفته. من وجهة نظري ، ألمح زياد إلى أن تصرفي معه لم يكن محترم فلم يكن لديه سبب آخر أن يدفع زميله للمغادرة حسب الأعراف اليمنية.


وكما في هذه السنة ظهرت شخصية جديدة عند تجار الجولة فكان لطفي يشتغل مهندس ساعات في عدن و بعد وفاة زوجته انتقل إلى تعز فانضم إلى محل العائلة ولقد ألهم رياح الحرية والجنون في هذه الشلة.

لطفي العبسي مهندس ساعات ومدافع عن المظلوم واليتيم و مشجع حرية التعبير في جولة حوض الأشرف.

كان لطفي يعتبر نفسه أخ كبير ومعلم لهؤلاء التجار الشباب عديمي الخبرة وقد أخذني كما تحت جناحه فينوي أن يعلمني الحياة. وكنا نتناقش مع زياد حول حالة لطفي وحول قيمه الفريدة. وزياد كان يقول “إن لطفي هو على حق…” برغم أنه ينتمي إلا بيئة اجتماعية معاكس له. كان زياد ضمنيا يريد أن أخرج وأنطلق فالتحقت في الأخير بمدرسة لطفي فاستفدت كثيرا وفي هذا الإطار طورت دراستي حول “دور الشهوانية المثلية في مجتمع الذكور”… لكن مرة أخرى فعلته كله باسم زياد.

وبعد عام من هذا تم اعتقال زياد في مصحة وصعقه بالكهرباء وجبره على ابتلاع المخدرات. فلما عدت إلى تعز في يوم ١٩/٨/٢٠٠٧ لقد حرق بيته انتقاما لكل ما مر به في غيابي ثم اختفى إلى السجن. وأنا دخلت الإسلام في الشهر التالي في بداية رمضان ١٤٢٨.

الغموض في تحولي (٢٠٠٧)

قد يتصور البعض انني دخلت الإسلام وفورا ارتدت بصيرا فأصبحت ارى القصة كما يرونها اليمنيون أو كما أراها انا الآن. الأمور لم تحدث هكذا. فهمي للقصة تغير تدريجيا مع وجهة نظري وتجاربي كمسلم فاستمر التغير طول هذه السنوات ويتغير حتى الآن.

الذي حدث فورا هو زوال التوهم بالشهوانية في التفاعل مع اليمنيين. واليمنيون أنفسهم لم يصدقوا أنني أسلمت في الأيام الأولى لأنني رفضت أن نعمل احتفال في المسجد حول إعتناقي الإسلام. كان بالنسبة لي مستحيل نحتفل وزياد في السجن ومع ذلك لا أريد النقاش في موضوع زياد. الخلاف طويل بين الباحث ومجتمع دراسته فأردت الحفاظ على استقلال قراري الروحي فأبقيت هذا كله على جنب. فاليمنيون شككوا في الأيام الأولى لكن تغيرت طبيعة علاقاتنا فتأكدوا بسرعة أنني أصبحت شخص مختلف. فما هو الذي حدث؟

في ١٨ سبتمبر ٢٠٠٧ قدام بقالة الهاوي.

دخولي الإسلام كان يعتمد بشكل أساسي على اكتشاف اكتشفته في إطار عملي فاكتشفت أنني أقدر أكون مسلما وأطبق أخلاق الإسلام في ممارسة علم الاجتماع - أو بتعبير أدق في معاملة التصورات السابقة عن المجتمع وأولأ هؤلاء التصورات التي كتبتها أنا. وفي ٢٠٢٢ سأذهب إلى حد القول: اكتشفت انني اقدر أسمي “إسلام” ما كنت أقوم به في علم الاجتماع. فأعلنتُ إسلامي فورا قدام مجتمعي من خلال رسالة كتبتها هذا اليوم ثم كلمت اليمنيين فرديا في حوض الأشرف لكن لم يكن هناك احتفال جماعي. قد غير هذا القرار كل شيء في حياتي خارج إطار الميدان ولم يغير الخلاف الموجود في هذا الإطار بيني و مجتمع تعز. مع ذلك تغيرت العلاقات وانقشعت الشهوانية تدريجيا لسبب واحد : وقفتي في هذا الخلاف أصبحت الآن أمام الله وليس أمام الأفكار.
الإسلام ساعدني على مراقبة المراقب وهو مبداء أساسي في علم الإجتماع نسميه “الانعكاسية”. فبفضل الله تعالى اندمج نظري تدريجيا في المجتمع وبطلتُ المراقبة إطلاقا وبطلتُ كما كتابة الملاحظات في دفاتري. كانت إقامتي الرابع وأبدأ ثالث سنة دكتورة فهو وقت التحليل والكتابة على أساس المواد التي جمعتها.

وقرب نهاية شهر الصيام قمت بزيارة لزياد في السجن المركزي. كان تعبان وكان يشكوا من الألم في رأسه ويصر على أن مشكلته ليست نفسية بل هي ظاهرة كيميائية في رأسه. أنا اخبرته بدخولي الإسلام وفي هذه الظروف لدهشتي الكبيرة سمعت زياد يشير إلى المسيحية. فالواضح أن دخولي الإسلام لا يصلح أي شيء في عينيه.

قضيت سنة في فرنسا وأتشبث بالإسلام ثم عدت إلى اليمن في صيق ٢٠٠٨ حتى أكون موجود لما يخرج زياد من السجن. هذه السنة استأجرت شقة في حارة أخرى لأبتعد عن جولة الحوض التي أصبحت لا أطيقها. كنت أقضي معظم وقتي اشتغل بدكتوراتي وأقرأ نظرية إنفصام الشخصية لعالم الأنثربولوجي جريجوري بيتسون. كنت كما أزور زياد كل يوم فاقتربت تدريجيا من اسرته وحارته.
زياد كان يرفض مطلقا أن يعرف نفسه كمسلم وهذا كان يؤسفني لأنني في هذه الفترة قد اكتشفت قوة الإيمان والتركيز والصلاة .قلت احتمال ينفعه كما نفعني لكن كان يرفض مطلقا ان يستقيم. بالعكس كان يتكلم بالتلفون مع شخصية وهمية اسمها المخرج. وفي هذه الظروف كتبت مشروع جائزة ميشيل سورا…

لمعرفة بقية القصة مع الطرف الأكاديمي, اقرأ النص : إن الربيع العربي قتلني مرتين (٢٠٠٨ - ٢٠٢٢)

ختامة

أنا حكيت القصة كما عشتها وما كان يدور في رأسي لكي يفهم القارئ ما الذي حدث لزياد والمسؤولية التي حملها.

زياد في سجن الحوثيين في اب (٢٢/١١/٢٠١٨)

لماذا زياد لم يعتبرني كمسلم لمدة طويلة؟ أعتقد لأنه كان يفهم منطق بحثي وكان يرى أن فكرة التوحيد موجودة فيها منذ البداية. ومسألة التوحيد هي ورث في تاريخ الأفكار لا تملكه المسلمين فحسب بل هو ركن اساسي في أي نشاط علمي – مثلا اية ٢٣ في صورة النجم : « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ (…) ». وكان الموضوع الأصلي في نقاشنا مع زياد : ما هو علم الإجتماع؟ ما هو الهيكل الإجتماعي وما هو المجتمع نفسه؟ هل هي أكثر من كلمات يتلوحونها الناس؟ فالمواد التي جمعتُها كانت تتركز أصلا على هذه المسألة (حتى تحت عنوان “الشهوانية”).

أنا إنسان مسيحي الأصل نسى كل شيء عن المسيحية ثم اكتشف بعد اعتناقه الإسلام ان كان يقوده قيم ورثها من المسيحية. هل هذا يمنعني أن أكون مسلم حقيقي؟ هذا السؤال لم يخرج من ذهني طول هذه السنوات. ما هو الفرق بين مسلم وباحث ميداني يحبس نفسه داخل بحثه إلى الأبد؟ هذا سؤال أساسي وأظن أن موقف زياد كان يسعى إلى ان يذكّره لي.
لم ينسى زياد كذلك ظروف إقامتي الأولى : كانت سنتين بعد احداث ١١ سبتمبر وفي الأشهر الأولى من الحرب في العراق التي قد عارضتها بلادي. زياد لم ينسى العناد العلماني (بالمعنى الفرنسي) الذي اتسم به سلوكي في هذا الزمان. لعب هذا العناد دورًا رئيسيًا في نتيجة هذه الإقامة وليس فقط اضطرابات اليمنيين وحماسهم الغير المنظم. وزياد هو الذي فتح الباب لهذا المشروع فربما اعتنق المسيحية ليتحمل مسؤوليته أمام المسلمين…

في الحقيقة لا أحد يقدر أن يحكي قصة زياد إلا زياد نفسه ولا أحد يقدر يقول من هم أهل السماء الذين يسمع صوتهم. لكن إذا كان باريس “مدينة الجن والملائكة” كما وصفها الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح فإحساسي أن زياد يسمع ملائكة المؤسسات التي أكافح معها منذ عقدين. هو يسمع صوت الملهمات التي رفض اغتصابها عندما أُتيحت له الفرصة. هي أصوات لم يعد يسمعها اليمنيون الذين يقربون هذه المؤسسات من ناحية مصلحية مبتذلة برغم أنها تمسك جزء كبير من حريتهم في هذه الدنيا.

استقبال ورشة جدة

ar/jeddah/2003-2008.txt · آخر تعديل: 2022/09/22 13:30 بواسطة mansour

Donate Powered by PHP Valid HTML5 Valid CSS Driven by DokuWiki